حطبٌ ودخانٌ.. و"نهفات"!!

للوهلةِ الأولى، عندما تنظر إلى تلك القرية من على بُعد ترى مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي الخالية من أي بناءاتٍ.. تلتفت يساراً فتجد مربعاً مائياً تظنُّه بحيرةً ولكن ينقصها بعض "الأوِزّ"، وما إن تتوغَّل أكثر في القريةِ حتى تشتم رائحةً ستجعلك تندم أنَّك ملأتَ معدتَك قبل أن تخرج، فربما تُجبرُك تلك الرائحةُ على استرجاع كل ما "احتشَت" به.. ومباشرةً سترسِلُ تلك الرائحة لعقلِك إشاراتٍ تُعلِمُك عن سبب خلوِّ تلك البحيرات من"الأوز".. باختصار هي لم تأتِ لأن تلك المُربَّعاتِ ليست سوى أحواض صرف صِحيّ!. كان يوماً صاقعاً مُمطراً قليلاً، انطلقنا فيه للتعرف على سرِّ مربعات "الزينجو" " المتناثرة هنا وهناك.

يوم ممطر تحت "الزينجو"
كان وقعٌ اختيارِنا الأولُ على تلك الغُرفة من "الزينقو" والمحاطة بسياجٍ ترى فيه أصل البداوة.. على جانب ليس ببعيد عن الغرفة تجد حماراً، وبالقرب منه تُصاحِبه بقرة..

اشتدَّت الرياح ومعها المطر، مما اضطرنا للاحتماء بالغرفة.. طرقنا بابها فاستقبلتنا امرأةٌ يغطيها السواد عدا عينيها وأنفِها، وبكلماتٍ خاطِفة كما لو أنها مُقَطَّعة لسُرعتِها.. استقبلتنا "بحفاوة"..

كان هناك ما يقارب الثَّماني نساء وفتيات، نُسخٌ طبق الأصل.. ابتسامة واحدة.. يدٌ على الفم تُخفي الابتسامة.. "داير أسود وقُنعة".. جميعهم افترشوا الرَّملَ والتصقوا ببعضهم حول كومةٍ من الحطب الملتهب وفوقه "برَّاد الشاي" .. يا الله كم كان أسوداً وقديماً!.

الدُّخان يعبق المكان والغريب أن لا أحد يعطس أو يدمع!! وعلى الرَّملِ داخل الغرفة فَرَشَتْ تلك الأم قطعة قماشٍ صغيرة وقالت:"تفضلي..".. فجلستْ.. دقائق قليلة حتى كدتُ لا أرى شيئاً لكثرة ما انتشر دخان حطبهم في الغرفة لولا أنني انتقلتُ لطرفها حيث الرياح ورشات المطر لكنهم كانوا أهون من عبق دخان الحطب..

تلك العائلة هي عائلة "أحمد أبو غزال".. هو الآخر كانت تعلو يداهُ الحطبَ المشتعلُ، وحولَه زوجتُه وبناتُه وزوجات أخيه وبالقرب منهم تلك الماكنة الغريبة "المطروقة" التي تخضُّ نفسَها بعنف.. سألتُ عن اسمِها فكانت "المَخَضَّة".. يُصبِح فيها اللَّبنُ زُبدة ! ومن ثم يكون وجبةً للعائلة..

خمسة عشر عاماً عمل فيها أبو غزال مزارعاً في (إٍسرائيل) ليُتوَّجُ ببيت صغيرٍ غير مُتَمَّم من الباطون، والآن وبعد أن أوقِف عملُه كما جميعهم، التزم تلك الغرفة منتظراً أشياء ثلاثة.. بطالة وكالة.. و"كوبونة".. وحليباً من تلك البقرة للعائلة !.

لن تفنى البداوة!
لقد بدا لي أن تلك الغرفة أهمُّ بكثيرٍ لهم من بيت "الباطون"، فحياتُهم كاملةً يقضون وقتهم فيها يتحادثون ويتمازحون على الرِّمال وحول الحطب وبرَّاد الشاي شديد السَّواد.. وكأنهم يقولون نحن لا نتخلَّى عن أصلِ البداوة!!..

تقَّدمت لي إحداهنَّ بكأس ساخن من "شاي النار" مؤكِّدةً أن طعمَه يختلف كلياً عن شاي الغاز. لكنَّ نصيبي سبق شرابي حينما سُكِبت كأسي بغير قصد..

وعن أولئك الفتيات فبعضهن لم يحظين بتعليمٍ أكثر من الإعدادية، وكثير منهن لم يدخلن المدارس، أما من درسن وحصلن على وظيفة فيمكن عدهن على بضعة أصابع!.

لكن قليلاً من نساء القرية يتطلَّعنَ لشيءٍ من الرقي ومحو الأمية فبعضهن يذهبن لتعلُّم مبدئي للعربية والإنجليزية أيضاً في مركزٍ يتبع لوكالة الغوث.

أبواب لا تستر!
بيت آخر.. وأحمد أبو غرارة صاحبه، شاب في السادسة والعشرين من العمر، استدان وأنشأ في أرض الحكومة غرفة وصالة صغيرة للغاية ومطبخ وحمام بستائر من قماش خَرِب لا يحمي الخصوصية نهائياً، إذ رأيتهما تظنهما مجرَّد ممرّ! فلم أرَ فيه سوى كومة الحطب وبراد الشاي الأسود.. تقول "راحة" والدة أحمد:"عندما هبَّت الريح عنيفةً، حملتُ نفسي الثالثة فجراً وذهبت لأَطْمَئِنَ عليه، "فأسقف الزينقو" قد تطير في أي لحظة ويصبح ولدي وعائلته كالقَصَب في عراء القرية البدوية".. ملامح "راحة" تحدثت عن أمٍّ حنونٍ لأبعد حدّ..

زوجة أحمد لم تكن موجودة، ذهبت لعيادة الوكالة لمعالجة طفلتِها، سألته عن وسيلة الاتصال بها إن احتاجها لضرورةٍ فأجاب: لا وسيلة، وماذا عن الجوال؟ بدا متعجباً وأجاب:"من تحمل جوالاً في قريتِنا البدوية نعتبرها "منحرفة"، وفق تعبيره. بلعتُ ريقي وسحبتُ جوالي خفيةً إلى حقيبتي.. ولم يهدأ لي بالٌ إلا عندما أكَّد:"نراهُ عيباً -فقط- في قريتنا..".

أحمد لا يعرف في حياتِه غير النوم و"القعدة" وملاحقة بطالة وكالة أو "عتل" أشياءً يمكن عتلها ليُحصِّل بها غذاء يوم لعائلته.. لكن كابوس "أرض الحكومة" لا يزال يلاحق نومَه ويقظَتَه.. "ماذا إن عادت الحكومة لأخذ حقِّها؟ أين سأذهب بزوجتي وأولادي؟!.

ذات يوم ضاقت بأحمد الدنيا.. فطفلُ الثلاث سنوات ابنُه ظلَّ حوله "يزنّ" أريد "ِشيكل"..، لم يحتمل والدُه الشعور بالعوز، فحتى "الشيكل" تخلَّى عن جيبِه، فثارت ثائرته وأمسك بابنه، تارةً يرفعه وأخرى يضربه أرضاً.. حتى كاد يُغمى عليه لولا الجدة الحنون "راحة"..

رجته ألا يكرِّر فعلَتَه، فحال طفلِه يُبْكِي الحجر.. كان حافياًَ .. نصف "بنطاله" السفلي مبلل بالماء وسط لسعات البرد.. أما قدماه فلم تظهرا لشدة ما غُطِّيتا بالرمال المُبَلَّلة.. وعندما قلت له بشفقة:"البس في قدمِك فالبرد قارس".. أجابني والده:"لا تقلقي.. متعودين"!!.

العزبة
بيتٌ من "النايلون الأسود" يحطُّ في أرض حكومية خالية، وكغيره من البيوت أبوابه من قماش، فحسن الجطلي شيد من النايلون غرفة معيشة أسماها "العزبة" ينام وزوجته وأولاده الأربعة فيها، وغرفة أخرى من "الزينكي" حسب لفظ الزوجة وتقصد "الزينجو".. كانت يد الزوجة كما الثلج ببرودتِه، شعرتُ بها عندما سلَّمت عليَّ.. فقد كانت زيارتي لهم في وقتٍ كانت تغسل الملابس فيه لعائلتها.. وبالطبع كانت يداها هما "الغسالة الفُل أوتوماتيك"..

قبل أن نخرج طلبا منا البقاء لشرب كأسٍ من الشاي على النار، ابتسمتُ وقلت: ما سرُّ شاي النار هذا؟.. إنه أنيسنا و"برَّاد جمعتِنا ولقاءاتِنا".. نُحبُّه أكثر من أي شيء.. ونستغني عن الطعام ولا نستغني عنه..".. لكنَّ الوقت داهمنا.. وللمرة الثانية لم يكن لي به نصيب..

أنا و"ضرتي" على زوجي !
في بيت الزينجو الثالث.. كانت النُّكتة.. استقبلتنا امرأة شابة.. ربَّاه.. كل ألوان الطبيعة تكوَّمت في ذلك الوجه الأسمر!! وبحفاوةٍ بدويٌةٍ كما سابقتها دعتنا للجلوس على "فرشةٍ اسفنجية" ، تخيَّل معي يا رفيقي إذا ما غمست قطعةً إسفنجيةً صغيرةٍ في وعاء ماء.. كيف ستصبح الاسفنجة؟ وبالضبط تماماً كانت تلك "الفرشة" لتقع في فخاخِها زميلتي "هدى" وتجلس عليها..

بعد دقائق قليلة تأتي امرأةٌ أصغر سناً وأكثر حيوية، ما شدَّ انتباهي كثيراً ذاك الوجه المغموس غمساً بألوانٍ من كل نوع.. هي الأخرى..!!

هل عرفتم من تكون؟ لا أظن.. فيستحيل أن تتخيلوا أنها "ضرتها" التي لم يمضِ على زواجها سوى شهرين.. كانتا قد ذهبتا سوياً قبل قدومنا بقليل إلى العيادة؟ ولماذا؟ من أجل فحص الحمل..

تقول الزوجة الأولى:"نحن كالأخوات وقد نتفق على "رجُلِنا" إن أغضب إحدانا.. وكثيرون يستغربون أننا "ضراير" .. فعلاً حتى أنا وزميلتي "هدى" بكل علامات التعجب.. تعجَّبنا!!.
أما في حال فكَّر في الزواج بثالثة تقولان بعد أن نظرت كل منهما إلى الأخرى بابتسامة عريضة:"نحن الاثنتان .. لن نبقى له في البيت".

قلت في نفسي:"سيخلو به البيتُ وقتها ويأتي باثنتين لا واحدة.. وتأتيان ترجوانه ليعيدكما لمربع "الزينقو".." صراحة، لقد ضَحِكْتُ في نفسي كثيراً..

في القرية البدوية كان هذا البيت الأخير الذي زرناه، خرجتُ منه وعيناي لا ترمشان لكثرة غرابتِها واختلافِها عن الوسط، إنهم عالمٌ آخر.. عالمٌ يتوقُ لقليلٍ من الحضارة لكنه لا يملك ترف الوصول إليها.. فعلاً إنها قريةٌ بدوية..


[center][justify][b]

يسلموؤو اخــي ويعطيك الـــف عأأأفيه

ننتظـــر جديدك المميـــز

تقبل مـــرووري

شكرأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأ

يسلمووو اخي علي الطرح

يسلموو اخي علي الموضع

يسلمو موضوعك في غايه اللروعه تقبل مروررررررري